Sunday, May 04, 2008

كن في الدنيا كأنك غريب - د.يوسف القرضاوي

روى البخاري في صحيحه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وخُذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.

لا خلود في الدنيا

إن مشكلة الناس أنهم يحيَون في الدنيا بعقلية الخالدين، يظنون أن الحياة لهم دائمة، فإن لم تكن دائمة، فهم يحسبون أن الموت عنهم بعيد، ودواء هذا كله، أن يُقصِّر الناس من آمالهم، وأن يعيشوا على ذكر من الآخرة، وأن يجعلوا الآخرة نُصب أعينهم. ومن أجل هذا، يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمر بقوله: "كُن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

فإن من الخطر أن يتخذ الإنسان الدنيا دار إقامة، ويتخذها وطنًا دائمًا، ويحسب أن لا رحيل له عنها، أو هكذا يُفكِّر... وهكذا يُعامل نفسه... وهكذا يُعامل الناس.

إن عليه أن يعرف أن الدنيا دار ممر، لا دار مقر، كما قال العبد المؤمن الصالح، مؤمن آل فرعون... وهو يدعو قومه إلى الله، ويقول لهم: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}.

الحياة الدنيا هي متاع؛ بل متاع قليل، بل هي متاع الغرور... والآخرة هي دار القرار، دار الإقامة... دار الخلود.

فليكن الإنسان في الدنيا على إحدى هاتين الحالتين: حال الغريب، أو حال عابر سبيل.

الغريب الذي يُقيم في أرض وهو يعلم أنها ليست أرضه، ويُقيم في بلد، وهو يعلم أنها ليست وطنه، فهو دائم الحنين إلى وطنه، دائم الحنين إلى أرضه، إلى مسقط رأسه، ومهد طفولته، ومهوى فؤاده، حيث يجتمع شمله بأحبائه وأصحابه... فهذا هو شأن المؤمن.

فوطن المؤمن ليس هو الدنيا، إنما هو الجنة...

فإن الله حينما خلق آدم، أسكنه وزوجته الجنة، ثم أهبطه منها، ووعده وذريته من الصالحين بالرجوع إلى المسكن الأول... إلى الجنة. ولهذا فإن المؤمن يحنُّ إلى الوطن الأول:

كم من منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل.

يحنُّ إلى الجنة، التي كان فيها أبوه، ورضي الله عن ابن القيم إذ يقول في ميميته:

فحيِّ على جنات عدنٍ فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيَّمُ

ولكننا سَبِيُ العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم؟

نحن قد سبانا الشيطان، وأصبحنا أسرى له، فهل ترى نُفكُّ من إساره؟ وهل ترى نخرج من داره؟ وهل ترى نعود إلى دارنا ووطننا الأول... الجنة؟

الحالة الثانية التي يرشد إليها الحديث

أن تعتبر نفسك غير مُقيم قط، وإنما أنت مسافر أبدًا، تقطع مرحلة وراء مرحلة، ومنزلة عقِب منزلة، حتى تذهب إلى مقصدك وإلى مأواك، وإلى دار مقامتك.

وهكذا نحن -أيها المسلمون- نحن مسافرون.. وراحلتنا الليل والنهار... مركبنا الليل والنهار... اللذان يُبليان كل جديد، ويُقربان كل بعيد، وطالما أهلكا القرون من قبلنا، {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ}، ومع هذا، مع أن الليل والنهار يعملان في هدم الحياة، ونقص الأعمار، وتقريب الآجال، لم يزالا جديدين...

الليل يُسلمنا إلى النهار، والنهار يُسلمنا إلى الليل، ونحن بينهما على سفر، وكلاهما يُفضي بنا إلى الآخرة... ومَن كان الليل والنهار مطيَّته فهو يُسار بهم وإن لم يَسِر، وهو سائر إلى الموت لا محالة.

سأل الفُضَيْل بن عياض رجلاً: كم عمرك؟ فقال له: ستون سنة. قال له: إذن فأنت منذ ستين عامًا وأنت تسير إلى ربك فيوشك أن تبلغ. فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له الفضيل: أتدري معنى ما تقول؟ مَن علم أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه بين يدي الله موقوف، ومَن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسئول، ومَن علم أنه مسئول، فليُعد للسؤال جوابًا.

فقال الرجل: وما النجاة؟ وما الحيلة؟

فقال الفضيل: أن تُحسن فيما بقيَ، يُغفر لك ما مضى، وإن لم تُحسن فيما بقىَ، أُخذت بما مضى وبما بقيَ.

كلنا مسافرون... ننتظر قطار الموت، ننتظر هذا المركب، ليوصلنا إلى الله، إن اليوم أو غدًا أو بعد غد.

كل يوم ينقضي من حياتنا، إنما هو جزء من عمرنا، يذهب وينطوي.

إنا لنفرح بالأيام نقطعــها كل يوم مضى يُدني من الأجل

فاعمل لنفسك قبل الموت مُجتهدًا إنما الربح والخسران في العمل

كل يوم يمضي إنما هو انسلاخ جزء من عمر الإنسان، ورحم الله الحسن البصري الذي يقول: يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك، حتى إذا انتهت أيامك انتهيت كُلَّك!

وهكذا تمضي الأيام والليالي، ونحن مسافرون إلى الله، وما هذه الأيام إلا مراحل على الطريق..

وما هذه الأيام إلا مراحل يحث بها داعٍ إلى الموت قاصدُ

وأعجب من ذا لو تأملتَ أنها منازل تُطوى والمسافر قاعدُ

ولقد قال المسيح عليه السلام، لتلاميذه: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها.

هل يبني أحد على القنطرة؟ لا... إنه مكان عبور، وليس مكان بناء وإقامة وعمران.

وكان المسيح عليه السلام، يقول: مَن ذا الذي يبني على موج البحر دارا، تُلكم الدنيا، فلا تتخذوها قرارا، لا تتَّخذوا الدنيا لكم ربا، فتتَّخذكم لها عبيدا.

هكذا أوصى الأنبياء، وهكذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوصى غير واحد من أصحابه: أن يكون بلاغه من الدنيا كزاد الراكب، ولما دخل عليه بعض أصحابه، ووجد الحصير قد أثَّر في جنبه، وصعُب عليه ذلك، وعظُم في نظره وعلى نفسه: أن يؤثر الحصير من خشونته، في جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كسرى وقيصر ينامان على الديباج والإستبرق، وأنت تنام على الحصير حتى يؤثر في جنبك؟ فقال: "مالي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا، كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها".

فهذه الدار دار مَقيل، وليست دار إقامة، ولكن الناس عن ذلك غافلون.

إن هذه الحياة ليست حياة خلود أبدًا، لا تستحق أن يفرح الإنسان بها، إلا بما أوتي من فضل الله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.

كيف يفرح بالدنيا مَن تهدم ساعاته فيها يومه، وأيامه تهدم شهره، وشهوره تهدم عامه، وأعوامه تهدم عمره؟ وهكذا حتى تنتهي هذه الحياة، التي عليها يتكالب الناس ويتنافسون!

وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول لابن عمر: "وعُدَّ نفسك من أهل القبور"، أي اجعل نفسك كأنك واحد من أهل القبور، فتوشك أن تكون واحدًا منهم...

مَن يدري أنك غدا أو بعد غد أو اليوم... ستكون من أهل القبور... ولهذا كان ابن عمر يقول، آخذا من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح.

لا يدرى أحد ماذا بقيَ من عمره، وإلى أي سن سوف يعيش؟!

لا يدري ابن العشرين إذا كان يعيش إلى الخامسة والعشرين أو الثلاثين...؟ حتى يؤجل توبته وإنابته إلى السبعين...

ما يدرى أحد متى يموت

ذهب أحد السلف يطرق باب أخ له من الصالحين، فقال أهل البيت: لقد خرج في حاجة له. قال: ومتى يرجع؟ فردت عليه جارية صغيرة من أهل البيت، تقول له: يا هذا، مَن كانت نفسه بيد غيره، فمَن ذا الذي يعلم متى يرجع؟!

كان بعض السلف إذا نام يقول لأهله: أستودعكم الله، فلعلها النومَة التي لا قيام لي منها. يقول ذلك كلما أراد أن ينام.

وكان يجعل الواحد منهم وصيته وعهده مكتوبًا تحت وسادته، فلعله لا يدركه الصباح!

بالأمس كان لنا زميل معلِّم، هذا الزميل صام أمس مع الصائمين، وأفطر مع المفطرين، وصلى المغرب كسائر المسلمين، وتوضأ وانتظر أن يصلي العشاء والتراويح مع المصلين... وما جاء العشاء إلا وقد جاءه أجله... سكت القلب... ما الفرق بين الحياة والموت؟! هذا الحاجز الرقيق، هذا الخيط الدقيق، يسكت القلب بعد حركة، ذبحة صدرية، سكتة قلبية، حادثة مفاجئة، فإذا الذي كان في الأحياء، صار في الأموات، وإذا الذي كان في القصور، صار من أهل القبور، وهكذا هي الحياة...

حُكم المنيَّة في البريَّة جار هذه الدنيا ليست بدار قــرار

بينا يُرى فيها الإنسان مُخبرًا حتى يُرى خبرًا من الأخبار

بعد أن كان يقول حدث كذا... وحدث كذا... يخبر عن حال غيره، يصبح هو خبرًا من الأخبار، مات فلان! هذه الكلمة تنتظر كلاً منا أن تقال فيه، يومًا قريبًا أو بعيدًا.

الدنيا ليست بدار مقر

هذا شأن الدنيا... فإنها دار ممر إلى دار مقر... ومن طبيعتها أنها دار أكدار وأحزان...

جُبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفوًا من الآلام والأكدار

ومُكلِّف الأيام ضدَّ طباعها مُتطلِّب في الماء جذوة نار

وكم من حوادث تفجع الناس، وكم من أخبار يسمعها الناس... عن الموت السريع والموت المفاجئ، ولكن الناس –وللأسف- يعيشون في الدنيا وكأنه ليس بعد الحياة موت، وكأنه ليس بعد الموت بعث، وكأنه ليس بعد البعث حساب، وكأنه ليس بعد الحساب جنة أو نار...

الناس يعيشون في الدنيا كأنهم خالدون، فعليها يحرصون، وعلى متاعها يتهافتون، وعلى زخارفها يتقاتلون، يريدون أن يأكلوها بالباطل اليوم، لتأكلهم النار بالحق غدًا.

يا معشر المسلمين:

الموت أقرب من ذلك...

كل امرئ مصبح في أهله

والموت أدنى من شراك نعله

فلينتظر كل منا الموت، وليقصِّر من أمله، فـ{ومَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}.

{وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا}.

بدل أن نقول ذلك ساعة الموت، فلنعمل الآن.

يقول صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هَرَمك، وصحتك قبل سَقَمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغلك، وحياتك قبل موتك".

No comments: